كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب} يعني: يدفع الحاكم الحد عن المرأة {أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الكاذبين} يعني: بعد ما تحلف المرأة أربع مرات، فتقول في كل مرة: أشهد بالله الذي لا إله إلا هو أن الزوج من الكاذبين في قوله، {والخامسة}؛ يعني: وتقول المرأة في الخامسة: {أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إِن كَانَ} الزوج {مِنَ الصادقين} في مقالته.
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص {أَرْبَعُ شهادات} بضم العين، وقرأ الباقون بالنصب.
فمن قرأ بالضم، يكون على معنى خبر الابتداء، فشهادة أحدهم التي تدرأ حد القذف أربع شهادات.
ومن قرأ بالنصب، فالمعنى فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات.
قال أبو عبيد: وبهذا نقرأ، ومعناه فشهادة أحدهم أن يشهد أربع شهادات، فيكون الجواب في قوله: {إنه لمن الصادقين}.
وقرأ عاصم: {أَن لَّعْنَةُ الله} بتخفيف أنْ والجزم، وقرأ الباقون بالتشديد، وقرأ عاصم في رواية حفص {والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا} بالنصب، وقرأ الباقون بالرفع.
فإذا فرغا من اللعان، فرق القاضي بينهما وقال بعضهم: بعد اللعان؛ وهو قول الشافعي رحمه الله أو في قول علمائنا رحمهم الله لا تقع الفرقة، ما لم يفرق بينهما.
ثم قال عز وجل: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}؛ وجوابه مضمر، ومعناه ولولا فضل الله عليكم ورحمته، لبين لكم الصادق من الكاذب؛ ويقال ولولا فضل الله عليكم ورحمته، لنال الكاذب منكم بما ذكرناه من عذاب عظيم.
ثم قال: {وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ} يعني: تواب لمن تاب ورجع، حكيم بينهما بالملاعنة.
قوله عز وجل: {إِنَّ الذين جَاءوا بالإفك عُصْبَةٌ مّنْكُمْ}.
يعني: قالوا بالكذب؛ وقال الأخفش: الإفك أسوأ الكذب، وهذه الآية نزلت ببراءة عائشة رضي الله عنها.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله أخبرني الثقة بإسناده، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج في سفر أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه.
قالت: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد ما نزلت آية الحجاب، وكان ذلك في غزوة بني المصطلق.
قالت: فأنا أحمل في هودجي، وأنزل فيه في مسيرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته وقفل ودنونا من المدينة، أذن ليلة بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش.
فلما قضيت شأني، أقبلت إلى الرحل فلمست صدري، فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي.
فحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني، فحملوا هودجي ورحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه.
قالت: وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يهبلهن ولم يفشهن اللحم.
إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج، حين رحلوه ورفعوه.
وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا.
ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب.
قالت: فجلست مكاني، فظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي فبينما أنا جالسة في منزلي، إذ غلبني النوم، فنمت وقد كان صفوان بن المعطل السلمي يمكث في المعسكر؛ إذا ارتحل الناس، يتبع ما يقع من الناس من أمتعتهم، فيحمله إلى المنزل الآخر، فيعرفه فتجيء الناس ويأخذون أمتعتهم.
وكان لا يكاد يذهب من العسكر شيء، فأصبح صفوان عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني؛ وقد كان يراني قبل أن يضرب عليَّ الحجاب فاسترجع، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي.
فوالله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته فركبتها فانطلق بي يقود بي الراحلة.
قالت: وكان عبد الله بن أبي، إذا نزل في العسكر، نزل في أقصى العسكر، فيجتمع إليه ناس فيحدثهم ويتحدثون.
قالت: وكان معه في مجلسه يومئذ حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، فافتقد الناس عائشة حين نزلوا صحوة، وهاج الناس في ذكرها أن عائشة قد فقدت، ودخل علي بن أبي طالب على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن عائشة قد فقدت.
فبينما الناس كذلك إذ دنا صفوان بن المعطل، فتكلم عبد الله بن أبيّ بما تكلم، وحسان بن ثابت وسائرهم، وأفشوه في العسكر.
وخاض أهل العسكر فيه، فجعل يرويه بعضهم عن بعض، ويحدث بعضهم بعضًا.
قالت وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي.
إنما يدخل ويسلم ثم يقول: «كَيْفَ تِيكُمْ» فذلك يُريبُني؟ ولا أشعر بالسر.
فلما رأيت ذلك، قلت: يا رسول الله، لو أذنت لي فانقلبت إلى أبويّ يمرضاني.
قال: «لا بَأْس عَلَيْكِ» وإنما قلت ذلك لما رأيت من جفائه.
قالت: فانقلبت إلى أمي، ولا علم لي بشيء مما كان، حتى قمت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة.
قالت: وكانوا لا يتخذون الكنف في بيوتهم، إنما كانوا يذهبون في فسح المدينة.
قالت: فخرجت في بعض الليل، ومعي أم مسطح، حتى فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح، فقالت: تعس مسطح.
فقلت لها: بئس ما صنعت، تسبين رجلًا وقد شهد بدرًا.
فقالت: أولم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضًا إلى مرضي، وأخذتني الحمى مكاني، فرجعت أبكي.
ثم قلت لأمي: يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به، ولا تذكرين لي منه شيئًا.
فقالت: هوني عليك، فوالله لقلَّ ما كانت امرأة قط رضية عند رجل يحبها ولها ضرائر، إلا كثرن عليها.
قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم؛ ثم أصبحت أبكي.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حيت استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله.
فأما علي بن أبي طالب، فقال: لم يضيق الله عليك والنساء كثير فاستبدل.
وأما أسامة بن زيد، فأشار عليه بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه من الود.
فقال يا رسول الله، ما علمت منها إلا خيرًا، فلا تعجل وانظر واسأل أهلك.
قال: فسأل حفصة بنت عمر عنها، فقالت: يا رسول الله، ما رأيت عليها سوءًا قط.
وسأل زينب بنت جحش، فقالت مثل ذلك، وسأل بريرة فقال: «أيْ بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يُرِيبُكِ مِنْ أَمْرِ عَائِشَةَ؟» قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق نبيًا، ما رأيت عليها أمرًا قط أغمصه عليها، غير أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله.
قالت: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل علي، وعندي أبواي، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: «يا عَائِشَةُ، لَقَدْ بَلَغَكِ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَإنْ كَانَ مَا يَكُونُ مِنْكِ زَلَّةَ مَا يَكُونُ مِنَ النَّاسِ، فَتُوبي إلى الله تَعَالَى؛ فإنَّ الله يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ فَإنَّ العَبْدَ إذا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ، تَابَ الله عَلَيْهِ».
فانتظرت أبويَّ أن يجيبا عني، فلم يفعلا، فقلت: يا أبت أجبه، فقال: ماذا أقول؟ فقلت: يا أماه أجيبيه.
فقالت: ماذا أقول؟ ثم استعبرت فبكيت، فقلت: لا والله لا أتوب مما ذكروني به وإني لأعلم أنني لو أقررت بما يقول الناس، لقلت وأنا منه بريئة، ولا أقول فيما لم يكن حقًا.
ولئن أنكرت، فلا تصدقني.
قالت: ثم أنسيت اسم يعقوب، فلم أذكره، فقلت: ولكني أقول كما قال العبد الصالح أبو يوسف {وَجَاءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] قالت: فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تغشاه من الله ما كان يغشاه.
قالت: أنا والله حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله عز وجل يبرئني، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل الله في شأني وحيًا يتلى، ولساني كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بقرآن يقرأ به في المساجد، ولكنني كنت أرجو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه شيئًا ببراءتي فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال: «يا عَائِشَةُ أبْشِرِي، أَمَا والله فَقَدْ بَرَّأَكِ الله تَعَالَى».
فقالت لي أمي: قومي إليه.
فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله تعالى، هو الذي أنزل براءتي.
وفي رواية قالت: أحمد الله تعالى وأذمكم.
قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه ثم قال: «يا أيُّها النَّاسُ مَنْ يُعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ، قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي برَجُلٍ ما رَأَيْتُ عَلَيْهِ سُوءًا قَطُّ، وَلا دَخَلَ على أهْلِي إلاَّ وأنَا مَعَهُ».
فقام سعد بن معاذ، فقال: أخبرنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هو؟ فإن يكن من الأوس نقتله، وإن يكن من الخزرج نرى فيه رأيًا، أمرتنا ففعلنا أمرك.
فقام سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، وكان رجلًا صالحًا، ولكن حملته الحمية، فقال: كلا ولكنها عداوتك للخزرج.
قال: فاسْتَبَّا، فقام أسيد بن حضير الأوسي، وقال: يا سعد بن عبادة، أتقول هذا.
كلا والله ولكنك منافق تحب المنافقين، فاستب حي هذا وحي هذا، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللغط، نزل وتركهم، وقد تلا عليهم ما أنزل الله عليه في أمر عائشة رضي الله عنها.
{إِنَّ الذين جَاءوا بالإفك عُصْبَةٌ مّنْكُمْ} يعني جماعة منكم، وهو ما قال عبد الله بن أبيّ وأصحابه: ما برئت عائشة من صفوان، وما برىء عنها صفوان، والعصبة عشرة، فما فوقها، كما قال الكلبي.
{لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ} يعني: عائشة ومن كان ينسبها والنبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}؛ لأنه لو لم يكن قولهم لم يظهر فضل عائشة رضي الله عنها وإنما ظهر فضل عائشة بما صبرت على المحنة، فنزل بسببها سبع عشرة آية من القرآن من قوله: {إِنَّ الذين جَاءوا بالإفك} إلى قوله: {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ووجه آخر، بل هو خير لكم، لأنه يؤخذ من حسناته ويوضع في ميزانه، يعني: عائشة وصفوان، وهذا خير له.
ثم قال: {لِكُلّ امرىء مّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم} يعني: لكل واحد منهم العقوبة بمقدار ما شرع في ذلك الأمر، لأن بعضهم قد تكلم بذلك، وبعضهم ضحك، وبعضهم سكت.
فكل واحد منهم ما اكتسب من الإِثم بقدر ذلك.
{والذى تولى كِبْرَهُ} يعني: الذي تكلم بالقذف {مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يعني: الحد في الدنيا.
فأقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد عليهم، وكان حميد يقرأ {والذى تولى كِبْرَهُ} بضم الكاف، يعني: عظمه.
قال أبو عبيد: والقراءة عندنا بالكسر، وإنما الكبر في النسب وفي الولاء.
ثم قال عز وجل: {لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} يعني: هلا إذ سمعتم قذف عائشة وصفوان.
{ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} يعني: هلا ظننتم به كظنكم بأنفسكم؟ ويقال: ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم، كظن المؤمنين والمؤمنات بأمثالهم وبأهل دينهم خيرًا؛ ويقال: يعني: هلا ظننتم كما ظن المؤمنون والمؤمنات؟ {وَقَالُواْ هذا إِفْكٌ مُّبِينٌ} يعني: هلا قلتم حين بلغكم هذا الكذب، هذا كذب بيّن، وعلمتم أن أمكم لا تفعل ذلك؟ {لَّوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} يعني: هلا جاؤوا بها.
{فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ الله هُمُ الكاذبون} في قولهم: اللفظ لفظ الماضي، والمراد به المستقبل، يعني: اطلبوا منهم أربعة شهداء، فإن لم يأتوا بها؛ فأقم عليهم الحد.